مجتمع

17 رمضان يوم الاتحاد والجهاد والنصر

«موقعة بدر».. معركة غيرت مجرى التاريخ، حيث انتصر الإيمان على الكثرة، وسطر العرب أولى صفحات حضارتهم، في يوم مشهود لن يمحوه الزمن.

future الأديب المصري أحمد حسن الزيات

مقال للأديب المصري أحمد حسن الزيات (أبريل 1885 - مايو 1968) نُشِر بمجلة الرسالة في 16 ديسمبر 1935. والزيات يُعد واحدًا من كبار رجال النهضة الثقافية والأدبية في العالم العربي، ومؤسس مجلة الرسالة. اختِيرَ عضوًا في المَجامع اللغوية في القاهرة، ودمشق، وبغداد، وفاز بجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1962 في مصر.

كان الإسلام المهاجر من مكة الجاهلية لا يزال خافض الجناح في يثرب؛ وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا يزالون تحت البلاء؛ يمتحن الله صبرهم بالألم، ويختبر إيمانهم بالفتنة، ليمحص الذين يجتبيهم لنشر الدعوة، ويعلم الذين يصطفيهم للجهاد في سبيل الرسالة.

فالقرشيون يُوَثبون عليهم القبائل، واليهود ينصبون لهم الحبائل، والمنافقون يدسون لهم الغدر في الملَق. فلما أذن الله لدينه أن يعود، ولمجده أن يسود، ولنوره أن يتم، أرسل جنوده الثلاثمائة إلى وادي بدر، يتعاقبون على سبعين نضوًا من أباعر المدينة، ويستعينون بصبر المجاهد على القلة، وبعزة المؤمن على الذلة، وبعفة الزاهد على الفاقة.

ويسيرون في استغراق الصوفي المدلَّه إلى ما وعدهم الله من إحدى الطائفتين: العير أو النفير، وإحدى الحُسْنيين: النصر أو الشهادة؛ ولكن العير الذي يفيض بالثراء الضخم نجا به أبو سفيان على الساحل، فلم يبقَ إلا مكة الغاضبة لثروتها وسطوتها ودينها، وقد نزلت بالعُدْوة القصوى من الوادي مع أبي جهل!

تسعمائة وخمسون من فلذات كبدها أرسلتهم في الخيل والحديد، يجيشون على محمد بالغِل، ويفورون على صحبه بالحفيظة، ويرون الإسلام في هذا العدد القليل والمظهر الهزيل قد أمكنهم من نفسه، ودلهم على مصرعه!

مفرق الطرق في بدر

التقى الجمعان في صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان، وكان المسلمون -على فقرهم وضرهم- ثلث المشركين، وكان المشركون -على كثرتهم وعُدتهم- صفوة قريش، فكان موقف الإسلام من الشرك يومئذٍ موقف محنة.

كان بين العُدوتين في بدر مفرق الطرق؛ فإما أن يقود محمدٌ زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك!

وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب! فكان طريقٌ وعقبة، ونورٌ وظلمة، وإلهٌ وشيطان!

فإما أن يتمزق تراث الإنسانية على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر؛ وإما أن تتم المعجزة، فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل، ويبدأ التاريخ عهده الجديد من هذه الطريق، وبهذه الموقعة!

ذلك كان دعاء الرسول أمام العريش، ووجهه إلى القبلة، ويداه إلى السماء، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه، فيرده الصِّديق ويقول:«بعض هذا يا نبي الله، فإن ربك منجز وعده!»

وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل الوعد بالنصر، وجاءت البشرى بالجنة، فغاب المسلمون في إشراق عجيب من الإيمان، لا يرسم في أخيلتهم إلا الحور، ولا يصور في عيونهم إلا الملائكة؛ وقذف الله في قلوب المشركين الرعب، فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر، وانجاب القَتَم الكثيف عن النور الوامض من ربوع يثرب، وانكشفت المعجزة الإلهية عن انتصار ثلاثمائة على قرابة ألف!

موقعة بدر الكبرى

موقعة بدر الكبرى لا تذكر في تاريخ الحروب بخطتها وعدتها ونفقتها وعديدها، فلعلها في كل ذلك لا تزيد على معركة بين حيين في مدينة؛ إنما تذكر بنتائجها وآثارها في تاريخ السلم، لأنها كانت حكمًا قاطعًا من أحكام القدر، غيّر مجرى التاريخ، وعدّل وجهة الدنيا، ومكّن للعرب في دورهم أن يبلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسلة العلم!

لم يكن النصر فيها ثمرةً من ثمار السلاح والكثرة، ولكنه كان ثمرة من ثمار الإيمان والصدق؛ والإيمان الصادق قوة من الله، فيها الملائكة والروح، وفيها الأمل والمثل، وفيها الحب والإيثار، فلا تبالي العدد، ولا ترهب السلاح، ولا تعرف الخطر!

بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوة في بدر والقادسية واليرموك؛ وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية الجديبة والعروبة الشتيتة عمرانًا طبق الأرض بالخير، وملكًا نظم الدنيا بالعدل، ودينًا ألّف القلوب بالرحمة!

اليوم المشهود

بهذا الشعور القدسي الذي يحسّ وينهض ويقود، وبهذا اليقين النفسي الذي يجاهد وينتصر ويسود، وقف الشباب المصري الباسل من دخلاء الجيش موقف البدريين من كفار قريش، يشقون بهتافهم أذن الأصم، ويقرعون باحتجاجهم ضمير المصِر، ويجدعون بثباتهم أنف المستكبر!

لا ينكلون أمام الرصاص، ولا يرهبون وحشة السجن، ولا يجزعون عند الفاجعة. وعاطفة الوطنية كعقيدة الدين: فناء في الغيرية، واندماج في الجماعة، وتوجيه الأمل الطموح إلى المقصد الأعلى؛ وأجمل ما في وطنية الشباب المصري اليوم، هو أجمل ما كان في عقيدة الشباب العربي أمس: اتحاد قائم على الألفة، وتضامن مبني على الوحدة، ومزاج مركب من الشعور الدافق، والإيمان الصادق، والتفكير المنظّم!

إن اليوم السابع عشر من رمضان سيظل يومًا مشهودًا في تاريخ الأمة العربية بنزول القرآن وغلبة الحق، وفي تاريخ الأمة المصرية بنصرة الشباب، ووحدة الأحزاب، وعودة الدستور.

# دين # شهر رمضان # عزوة بدر

حتى لا يحمل أبناءنا أسفارًا
يوميات المازني في رمضان
مجالس الأدب في إحدى ليالي رمضان

مجتمع